قرية سيدي بوشتة تنتصر على الجفاف بمحطات تحلية متنقلة
في لحظة بدا فيها اليأس يلوح في أفق قرية سيدي بوشتة المغربية، وعلى شواطئ المحيط الأطلسي الهائج، ولدت قصة صمود ضد الجفاف الذي لم يرحم، قصة تفوق فيها الإنسان على الطبيعة حينما كادت تجف العروق وتعجز الأرض عن الوفاء بوعد الحياة، قرية صغيرة، محاطة بالبحر من جانب وبالجفاف من جانب آخر، قررت أن لا تستسلم للظمأ، فكان الماء العذب ينبع من قلب الأطلسي بفضل تقنيات تحلية لا تقل عظمة عن روح سكانها.
في هذه القرية النائية بمدينة آسفي، لم يكن أهلها يتوقعون يوما أن يحوّلوا مياه المحيط المالحة إلى مصدر لحياتهم اليومية، لقد وضعوا ثقتهم في محطة صغيرة، متنقلة، تكاد تكون غير مرئية فوق رمال شاطئ رأس بدوزة، بفضل هذه المحطة، بدأت المياه تتدفق، موزعة على أكثر من 45 ألفا من سكان القرى المجاورة، متحدية قسوة الطبيعة.
لكن ما يعزز من عظمة هذا الإنجاز ليس التقنية فحسب، بل الإرادة الجبارة التي قادت السلطات المختصة لتركيب 44 محطة متنقلة منذ أبريل 2023، مع خطط لمئات أخرى، لتغدو هذه المحطات أشبه بجنود مجهولة تقاتل من أجل حياة الملايين من سكان القرى، لقد جعلت هذه المحطات حلا فاعلا، إذ تنتج ما بين 360 إلى 3600 متر مكعب من المياه يوميا، بتركيبها البسيط وكلفتها المعقولة، لتصبح منقذا في وقت الشدة، كما يصفها مدير الوكالة المحلية لتوزيع الماء والكهرباء، ياسين الملياري.
ولكن سيدي بوشتة لم تكن إلا جزءا من صورة أكبر، في مواجهة خطر العطش، قررت الجهات المختصة أن تتحدى الزمن وتبني محطات تحلية عملاقة لإنقاذ مدن بأكملها مثل آسفي، التي فقدت الاتصال بسد المسيرة بعد تراجع مخزونه إلى نسبة 0.4%، هنا، تدخل المكتب الشريف للفوسفات، ليبدأ سباقا مع الزمن ويستكمل بناء محطة ضخمة، لتكون مصدر الحياة لآسفي منذ غشت 2023، بل وتمتد طموحاتها حتى تصل مياهها إلى مراكش بحلول 2026.
لقد كانت معركة ضد الزمن، ضد الجفاف، وضد المصير الذي أراد أن يحرم الناس من أبسط حقوقهم، الماء. وبينما بدأ العمل على بناء 6 محطات تحلية جديدة في العاصمة الاقتصادية الدار البيضاء وغيرها، بات واضحا أن المملكة تسير نحو تحويل مياه البحر من خيار طارئ إلى إستراتيجية دائمة لمواجهة التغيرات المناخية.
جلالة الملك محمد السادس لم يترك المجال للتأويل، عندما أعلن في خطابه الأخير أن المملكة المغربية تعول على تحلية المياه لتغطية أكثر من نصف حاجته من مياه الشرب وري المساحات الزراعية الكبرى بحلول عام 2030، إنه وعد برؤية مستقبلية، تحول الجفاف من تحدّ مروّع إلى فرصة لتطوير بنيات تحتية تعتمد على موارد لا تنضب، لتصبح مياه البحر تلك التي كانت مصدرا للملوحة وحدها، رمزا للحياة والنماء.
ربما لا يجد سكان سيدي بوشتة في طعم المياه المحلاة نفس العذوبة التي عرفوها من ينابيعهم القديمة، لكنهم يدركون أن هذه المياه الجديدة هي الأمل، وهي السبيل الوحيد للاستمرار، في مملكة تملك واجهتين بحريتين شاسعتين، يمتد الأمل من أعماق الأطلسي إلى كل بيت، ليؤكد أن العزيمة، عندما تتضافر مع التكنولوجيا والإرادة، قادرة على تحويل المستحيل إلى حقيقة ملموسة، تجسدها قطرات الماء التي تروي العطش وتزرع الحياة.